درج الخطاب الرسمي بعد اتفاق الطائف والذي أعلن رسمياً انتهاء الحرب الممتدة بين العامين 1975 و1990، على تصوير لبنان على أنه بلد الأمان والسياحة والازدهار العمراني. فهو أشبه بطائر الفينيق الذي ينتفض دائماً منتصراً من تحت الركام لينعم بحياة مشرقة من جديد. لكن الحروب والأزمات وحلقات العنف ما برحت تتكرر منذ ذلك الحين خصوصاً مع العدوان الإسرائيلي المتكرر (1993، 1996، 2006)، والاغتيالات السياسية المتعددة ومعارك متفرقة وعلى نحو خاص القتال المستمر بين باب التبانة وجبل محسن في شمال لبنان. كل هذه الأحداث شكلت، بما لا لبس فيه، عاملاً أساسياً لدحض مقومات "السلم الأهلي" المنشود في المرحلة التي تعرف بمرحلة "ما بعد الحرب".
لا شك بأن تاريخ لبنان الحديث شهد العديد من جولات العنف والاقتتال. فلم تمر سنوات قليلة عليه، منذ إعلان الاستقلال العام 1943، الا وشهد "حرباً" من نوع ما. منها ما سمي بـ"حرب أهلية"، أو "حرب لبنان"، أو "فتن طائفية"، أو "أحداث"، أو "حروب صغيرة". طبعاً، ليس من المستغرب، نظراً لتعدد الأطراف واللاعبين المتحاربين أن لا يتفق اللبنانيون على مسميات موحدة لحلقات العنف هذه. وبالرغم من أن العديد منهم قد واجهوا الحرب وتذكروها من خلال سبل عدة (كالفن والسينما...)، بيد أن القمع الرسمي لذاكرة الحرب من قبل الدولة (state-sponsored amnesia) قد عرقل مسيرة تشكل ذاكرة جماعية موحدة للمجتمع اللبناني. كان من شأن تلك الذاكرة أن تساهم في التعرف على أسباب الحرب والاستفادة من دروسها وعبرها. وبعيداً عن التعريفات الأكاديمية لمصطلح الـ"حرب" والشروط الواجب توفرها للإقرار بوجودها، وما تتركه من أثر على المجتمع، ونظراً لموجة العنف التي يشهدها لبنان حالياً من اشكالات أمنية، واقتتال بين الجيش وجماعات مسلحة إضافة إلى تفجيرات تستهدف المدنيين وعمليات خطف متكررة لا بد من طرح سؤال افتراضي، لا جواب بديهي له: هل لبنان في حرب، أم لا؟
يرفض العديد من اللبنانيين تسمية (أو الاعتراف؟) بأن ما تشهده الساحة اللبنانية حالياً بالحرب. يستبدل هؤلاء الحرب بكلمة "فتنة متنقلة بين المناطق"، أو "الفتنة المتربصة بالبلد"، وكما ولا يترددون في التنبيه لخطورة الوضع واحتمال دخول لبنان في حرب جديدة، في منطقة اقليمية غير مستقرة إطلاقاً. ولعل سبب عدم إقرار الرأي العام اللبناني بحالة الحرب يعود، بجزء منه، إلى الوقع الكبير التي تركته الحرب بين العامين 1975 و1990، وهي من دون أدنى شك، الأكثر رسوخاً في الذاكرة الجماعية للبنانيين، على اختلافها. لدرجة وكأن هذه المرحلة قد أسست مفهوم خاص لمصطلح الـ"حرب" فاصبح الوعي الجماعي وكأنه لا يقبل بأقل من انقسام مادي لمدينة بيروت، كمركز أساس للعنف، يترسخ بخط تماس يقسم بيروت بين منطقة "شرقية" ومنطقة "غربية" للاعتراف باكتمال شروط الحرب. فأضحت "الحرب" بالتالي، في يومنا هذا، حالة لم يقبل عليها المجتمع اللبناني بعد، لا بل هو في انتظارها. لكن ربما آن الأوان، بعد ما شهده لبنان في الأسابيع الأخيرة من تفجيرات، تفجيران في الضاحية الجنوبية من بيروت في بئر العبد والرويس وتفجيران آخرين في طرابلس، والاستقطاب الحاد في المجتمع اللبناني (مع حزب الله أو ضده، مع النظام السوري أو ضده، مع التدخل الخارجي أو ضده...) لتقديم قراءة مغايرة للعنف المعاش. شرط هذه القراءة لا يقتصر بالضرورة على اعتماد حرب الـ 1975 كنموذج ومعيار تقاس على أساسه حالة الحرب أو عدمها. لا بل تعتمد على توسيع الدائرة التحليل لتسلط الضوء على مفاعيل العنف المعاش في المجتمع اللبناني كشرط غير مرئي من شروط الحرب أيضاً.
وهنا سؤال بسيط: ما دمنا لسنا بحرب معلنة أو تقليدية فبأية خانة تصنف إذاً الانفجارات المتكررة وعمليات الخطف المستمرة؟ ناهيك عن الحواجز الافتراضية التي راح يرسمها اللبنانيون لتنقلاتهم اليومية فيتفادون بعض الطرقات والمناطق؟ وما معنى "الأمن الذاتي"، أي أخذ بعض القوى الحزبية والجماعات المسلحة وأحياناً المواطنين العاديين ومؤخراً البلديات من خلال مسلحين تابعين لها، مسؤولية مراقبة السيارات المشبوهة والتدقيق في هويات المواطنين في بعض الأحياء والمناطق؟ أما زال لبنان في مرحلة "التشنج"، أو بالأحرى أليست هذه من تجارب وممارسات الحرب أيضاً؟ من هنا فالمسألة إذاً، لا تكمن بالضرورة في الاستفسار حول وقوع لبنان في حرب أم لا، لما تخفي تلك المعادلة من تضليل، بقدر ما هي وبالدرجة الأولى مسألة تحديد "مفاعيل" العنف على الحياة اليومية للبنانيين.
يحاجج هذا المقال أن إستكمال شروط الحرب والاعتراف بوجودها، لا يمر بالضرورة من خلال توفّر الشروط نفسها التي تميزت في حرب الـ 1975، وذلك من خلال تسليط الضوء على التحولات الأساسية التي طرأت على الامتداد "المكاني" للحرب، وطبيعة اللاعبين الساسيين، مولدو ومحركو العنف، إضافة إلى استمرار ثقافة التعايش مع "العنف"، أو نكران الحرب وتبرئة الذات.
بيروت ومركزية الحرب: معادلة الزمان والمكان
بما لا شك فيه بأن الحرب التي يحدد إطارها الزمني بين 1975 و1990، كان لها إطار "مكاني" ايضاً وهو تمثل، وإن لم يكن بشكل حصري، بتمركز العنف في مدينة بيروت. فبيروت من أكثر المدن اللبنانية التي عانت دماراً في تلك المرحلة، وتكاد تكون المدينة الوحيدة التي اختصرت الحرب بلاعبيها وايديولوجياتها. فجاء إليها كل المقاتلين من فلسطينيين، ويسارين، وإسرائيليين، ويمينيين وجعلوها مسرحاً لا بد من المرور على خشبته من أجل استكمال شروط القتال وإستطراداً العنف. كما أنها أيضاً من المدن الوحيدة التي شهدت استمراراً في وتيرة العنف خلال تلك المرحلة، على نقيض المدن الأساسية الأخرى من طرابلس وزحله وصيدا (باستثناء المناطق الجنوبية التي وقعت تحت الإحتلال الإسرائيلي). فباتت أحداث المدن الأخرى وكأنها هامشية مقارنة بالعنف المركزي وغير المنقطع في بيروت. ومركزية بيروت في تلك المرحلة نتجت بجزء منها، جراء تكون حزام البؤس الذي نما على ضواحيها نتيجة لهجرة اللبنانيين الكثيفة من الأرياف والأطراف إلى المدينة-المركز. كما أنها المدينة الوحيدة التي احتُكرت بإسمها عملية إعادة الإعمار تحت شعار أن إعمار بيروت دليل على انتهاء الحرب ومدخل أساسي لإعادة إعمار لبنان. فاختصرت سياسة الإعمار ببيروت، ومعها أيضاً اختُصر لبنان ببيروت، كما جرت العادة في "المرحلة الذهبية" للبنان في الخمسينيات والستينيات. الاقتتال والعنف المتقطع يدور حالياً، في مدن أساسية خارج العاصمة بيروت، بوتيرة متقطعة وبشكل غير متواصل. أي أن معادلة "الزمان" و"المكان" طرأ عليها تحول ملحوظ. منذ أشهر قليلة فقط شهدت صيدا، عاصمة الجنوب، معارك بين الجيش اللبناني وجماعة أحمد الأسير والمغني المعتزل فضل شاكر. ولم تنته هذه الحالة إذ إن الأسير وشاكر ما زالا طليقين، ولا يبدو بأن هنالك قرار سياسي لتوقيفهما. لا بل ظهرا مؤخراً في رسائل صوتية وتغريدات إلكترونية تحريضية. كما تشهد طرابلس، عاصمة الشمال، منذ أعوام عدة اقتتالاً مباشراً بين منطقة جبل محسن وباب التبانة حيث ترسخت خطوط تماس بين المنطقتين، وأصبح أمر القتال في أيدي ما يعرف بـ"قادة المحاور" المتوزعين بين الأحياء، فيما راح يعرف إعلامياً بـ"جولات القتال" والتي زاد عددها على الستة عشر جولة حتى الآن. ناهيك عن المشاكل في مدينة عرسال في محافظة البقاع، نتيجة الأزمة السورية وتأثيرها المباشر على الداخل اللبناني عموماً، والقرى والمناطق الحدودية خصوصاً. فها هي على الأقل ثلاثة محافظات في لبنان تشهد تشنجات و"معارك" متواصلة يبدو أن لا حلول لها في المدى المنظور. إذاً شكلت بيروت مركز العنف في الحرب ولاحقاً الإعمار، في المرحلة التي تلت اتفاق الطائف مباشرة، وأريد لها أن ترمز وتحتكر عملية استعادة "السلم الأهلي"، فهذا لا يعني إطلاقاً أن عدم تمركز العنف أو انحصاره في شوارع بيروت، بالرغم من بعض الأحداث المحورية كأيار 2008 وأحداث الجامعة العربية 2007، في هذه اللحظة بالذات، هو مؤشر على عدم وجود حرب بالضرورة، بقدر ما هو دليل على انتقال العنف إلى أماكن مختلفة بوتيرة زمنية متقطعة، من ضمنها بيروت.
تحول لاعبي "الحرب": القبضاي والميلشياوي والسيارات المفخخة
أما العامل الثاني والذي يستحق أن يسلط الضوء عليه فـيكمن في طبيعة وهوية اللاعبين، مولدي العنف. في الحرب، التي اندلعت عام 1958 والتي ما عاد يصطلح البعض على تسميتها بالحرب "الأهلية الأولى"، لعب "القبضاي" دوراً مهماً فيها. والقبضاي كما يعرفه مايكل جونسون هو عبارة عن شخص قوي البنية، محنك وهو على ارتباط بالزعيم، محبب من البعض ويهابه البعض الآخر. لقد لعب القبضاي دوراً مركزياً في حرب الـ 58 من تسليح وسيطرة والدفاع عن الحارة. انتقل القبضاي وتحول دوره تدريجياً مع الحرب في السبعينيات فحل محله "الميليشياوي" (رجل تابع لميليشيا). أصبح "الميليشياوي" جزءاً من منظومة متكاملة بعض الشيء من تركيبة عسكرية هرمية يتبع لقائد معين ويقاتل من أجل قضية محددة. يشير الباحث نبيل بيهم إلى أن الاختلاف الأساسي بين القبضاي والميليشياوي يكمن في طبيعة العنف الممارس. فبينما يفتخر القبضاي بالاحتكاك الجسدي المباشر مع الخصم، راح رجل الميليشيا يقاتل عن بعد. فأحياناً بات قناصاً وأحياناً راح يقصف مناطق أخرى. أما المفارقة الأساسية بين الصنفين تكمن أساساً بمعادلة المكان space. فبينما يلجأ القبضاي إلى المتراس ليدافع عن الحي، يعتمد الميليشياوي على الحاجز ليسطر على التنقلات، وليحمي منطقته، وأحياناً ليقتل على الهوية.
ففي حين ارتبط القبضاي بشكل عام بالحي وبالزعيم (في فترة الأزمات)، والميليشياوي بالقائد أو بالمنطقة، اليوم تحولت "السيارة المفخخة" إلى لاعب أساسي في دوامة العنف. فالبرغم من أن السيارات المفخخة اعتُمدت كأسلوب خلال الحرب الأهلية، بيد أنها اليوم تظهر كأنها الأسلوب الأكثر رواجاً في عملية ممارسة العنف. منذ عام 2004 شهد لبنان العديد من السيارات المفخخة التي لم تستهدف الشخصيات فقط (مروان حماده، رفيق الحريري، سمير قصير، جورج حاوي... ومواطنون آخرون راحوا ضحاياها قلما ذكرت أسماؤهم في الإعلام) إنما استهدفت العامة والأحياء وكان آخرها انفجار بيروت في الضاحية الجنوبية وانفجاري طرابلس، شمال لبنان. فالسيارة لا يمكن حصرها بالمكان، فهي تستهدف ضحاياها في أماكن عدة، كما أن لا منظومة هرمية لها، أقله ظاهرياً. فبقدر ما يمكن أن يكون قرار التفجيرات التي استهدفت لبنان منذ أعوام محصوراً بجهة واحدة ذات قرار مركزي، بقدر ما يمكن أن يكون هنالك جهات عدة غير مرتبطة ببعضها البعض قد اتخدت القرارات هذه. السيارة المفخخة، على نقيض القبضاي أو الميليشياوي، لا تنحصر في منطقة معينة، أي المكان، انما تطارد اشخاصاً من بيروت إلى طرقات عرسال إلى المتن الشمالي. في نصه حول "القناص" والعنف، يشير فواز طرابلسي بأن القناص لا يغتال المدنيين فقط، لا بل يغتال الحياة أيضاً. والقناص يتحول إلى آلة قتل، كما رأيناه في فيلم "الحريق" (Incendies). من القبضاي المحلي، إلى القناص الآلة، ها هي "السيارة المفخخة" تأتي لتلتحق بلاعبي ومنتجي العنف. السيارة آلة لا حياة لها. لكنها، على شاكلة القناص "الآلي" تغتال الحياة أيضاً، فتنشر الذعر بين المواطنين فيحسبوا حساب تنقلاتهم اليومية. الرجل الذي يكبس الزر، أو الذي يعدها للتحول إلى قنبلة مؤقتة، لتنفجر السيارة في الأبرياء هو أيضاً "قناص" لكن من نوع آخر غير تقليدي. يقف عن بعد، يتربص وينتظر اللحظة المناسبة ليطلق الانفجار. فهو يبقى غير مرئي. القناص التقليدي "ثابت" في مبنى أما هدفه فمتحرك يجوب الشوارع يبقى مجهولاً في معظم الأحيان لا يعرف بالاسم. أما السيارة المفخخة فهي "متحركة"، تنتقل من حي إلى آخر لكن هدفها "ثابت"، في أمكنة عدة معروفة بالإسم ومحددة مسبقاً (جامع السلام أو التقوى في طرابلس، مثلاً). السيارة تنشر الخوف، لا قضية لها سوى إرهاب المجتمع أكانت اغتالت سياسيين أو استهدفت مدنيين فهي تخلق وتساهم مباشرة في خلق أجواء "الحرب"، ربما تكون الأجواء نفسها التي وجدت خلال الحرب "التقليدية" من انقسام عمودي بين اللبنانيين. فراحت بعض الأطراف تعتبر أن لا خلاص لها سوى بالقضاء على الطرف الآخر، والعكس صحيح. أي أن المفاعيل "الوهمية" تلك هي نفسها مفاعيل الحرب "المادية" والتي تهدف لاستئصال الآخر والقضاء عليه.
وإلى جانب التحول الاساسي في وسائل العنف فإن الامتداد الجغرافي للحرب هو أيضاً في تحول فانتقل العنف من الحي إلى المناطق وها هو يطال المساحة الجغرافية لكل لبنان. نوع الحرب حالياً ربما يكون خارج إطار المكان. يصعب تفادي الانفجار، بالرغم من أن المواطنين؟ في انتظاره. لا يتفاجأون حين يحصل. فلا يخفى على أحد أنه بعد انفجار الضاحية، توقع الكثير تفجيرات أخرى، كما وما زال يتوقع هؤلاء انفجارات أخرى. لعلها تكون حرباً من نوع آخر، إذاً، ليست بالضرورة حرباً على شاكلة سابقاتها. فكما تحولت شروط حرب الـ 1958، خلال حرب 1975-1990، ها هي الشروط الحالية للحرب الحالية، والتي يصح فيها، مصطلح الحرب الافتراضية، تتغير أيضاً.
"حرب الآخرين" و"وجه لبنان الآخر؟"
يعتقد العديد من اللبنانين بأنه لم يتوفر حتى الآن قرار إقليمي لاندلاع الحرب في لبنان. فهذه الحجة تحمل في طياتها نوعاً من التخلي عن المسؤولية الداخلية لإنتشار العنف من خلال إظهار العامل الاقليمي على أنه العامل المؤثر، إن لم نقل الشرط الأساسي لاندلاع الحرب. فمن دون هذا العامل لا يجّر المجتمع اللبناني إلى الحروب. وهذا التوجه ليس بجديد لا بل إنه يمثل الوجه الآخر والمكّمل للمقولة الرائجة إبان حرب الـ 1975-1990، والتي اعتبرت الحرب حينذاك أنها لم تكن سوى "حرب الآخرين" على الاراضي اللبنانية.
بيد أن "الآخر" أيضاً ليس الآخر الاقليمي فقط، إلا أنه يتجلى أيضاً بالآخر اللبناني، "الثقافي" و"الطائفي" ربما. ففي حين كان الشيخ أحمد الأسير والمغني المعتزل فضل شاكر في معركة مفتوحة مع الجيش اللبناني في صيدا، كان "كازينو لبنان" يستضيف في نفس الليلة مهرجان "الموريكس دور". حينها توجه النائب هادي حبيش، الذي شارك بالحفل، شاكراً المحطة التلفزيونة اللبنانية الـ"م. تي.في" على استمرارها في بث فعاليات الحفل: "هذا هو وجه لبنان الحضاري". وكأن لبنان لا وجه له سوى السياحة والاعياد، أما الوجه "الآخر" فيظهر وكأن لا صفة له ويستلزم تغاضي النظر عنه، لا بل نكرانه. يظهر هذا الآخر وكأنه من خارج هذا المجتمع، لا حاجة للتعاطي معه، لا بل يقتصر الدور على شيطنته. بيد أن ردة الفعل هذه، التي درجت العادة بأن تؤطر في ازدواجية، أشبه بأن تكون عنصرية الطابع، "حب الحياة" ضد "ثقافة الموت"، لا تنفي إطلاقاً عدم وقوع لبنان في مدار العنف. بالعكس، ففي حين كانت الحرب في أوجها، وفي العام نفسه التي كانت إسرائيل تجتاح بيروت، أي عام 1982، كان قسم من اللبنانيين يفرح بافتتاح منتجع "فاريا مزار" الذي ظهر وكأن لا علاقة له بما يحدث بالمدينة من دمار. واستطراداً، فالعنف أصبح مكملاً للفرح، وكأنه جزء من كماليات الحياة اليومية. بالتالي فإن انتشار المهرجانات الترفيهية هذه السنة، والتي لم يسبق أن شهد لبنان عدداً مماثلاً لها بحسب الإحصاءات الرسمية لوزارة السياحة، لا يعتبر إطلاقاً معياراً ينفي العنف أو ربما الحرب أيضاً. لا بل على نقيض ذلك، فهو ربما في كثير من الأحيان يشكل نكراناً للمسألة. وخير دليل على ذلك نقل فعاليات مهرجانات بعلبك العام 2013 من بعلبك المدينة إلى الدكوانة في جبل لبنان، بحجة الوضع الأمني. فلا يبدو أن هنالك تناقض فاضح بين من يدعي الأصالة (أي الوجه الحقيقي للبنان) و"الآخر" المشيطن، فالاثنان متكاملان يغذي أحدهما الآخر. يتفقان على عدم الاعتراف ببعضهما البعض. يتعايشان من دون الاقرار بوجود أحدهما "الآخر".
إذاً، لا بد لمقاربة العنف الحالي من تفادي المسألة في المعادلة التقليدية للزمان والمكان التي أطرت حرب الـ 1975-1990. فالحرب تترك أثرها على المجتمع، وعدم الاعتراف بها لا يعني إطلاقاً عدم تجلي مفاعيلها وانعكاساتها على الحياة اليومية للمواطنين. بعبارات أخرى، خط تماس الحرب لا يقتصر على خط تماس بيروت إنما هو موجود أصلاً، ومنذ أعوام، بين مناطق أخرى مثل باب التبانة وجبل محسن في شمال لبنان. هنا أيضاً لا يجب التغاضي عن خطوط التماس "الوهمية" أو "الافتراضية"، والتي هي أصلاً جزء لا يتجزأ من مسببات ومفاعيل الحرب. فراح العديد من اللبنانين يتفادى بعض المناطق التي تعرف كمناطق "حساسة" أو "المحلات التجارية الكبرى". وجراء ذلك، ترسم حواجز ومناطق محرمة على البعض أقله وهمياً، تتكلل بحواجز انقسام افتراضية أيضاً ظهرت جلياً من خلال ردات الفعل على انفجارات الضاحية وطرابلس. فمثلاً، لم يتردد الجيش اللبناني منذ أكثر من سنة في وضع نقطة تفتيش بين منطقة ذات أغلبية "مسيحية" (زغرتا) وأخرى مجاورة لها ذات أغلبية "سنية" (طرابلس) بحجة الدفاع عن أمن الأولى. وبالتالي يكون قد رسم حدوداً وهمية بين المنطقتين الجارتين فيفصل بالنتيجة "سلم" الأولى عن "حرب" الثانية.
كذلك، لم يستغرب أحدٌ بأن الانفجارات في ضاحية بيروت "الشيعية"، وطرابلس "السنية"، لم توحّد اللبنانيين في لحظة وطنية، بالرغم من الجهود التي بذلت من أجل إظهار الضحية على أنها ضحية هي نفسها بغض النظر عن الانتماء الطائفي للمنطقة المستهدفة. فالبرغم من أنها لم تؤد إلى اقتتال مباشر على محور ما يعرف عنه اعلامياً بـ "الفتنة السنية-الشيعية"، إلا أنه أظهر اختلاف وجهات النظر من خلال تقديم قرائتين مختلفتين لأحداث في تمام التشابه. فها هي إذاً الحواجز والانقسامات الوهمية والافتراضية تترسخ أكثر فأكثر.
هل نخطئ مرة أخرى، كما أخطأنا سابقاً وحصرنا إعادة إعمار لبنان ببيروت، فنحصر مرة أخرى شرط استعادة أو الإقرار بالحرب من بوابة بيروت فقط؟ أو التوهم بأن التخلص من خط تماس بيروت الشرقية - الغربية، هو حتماً التخلص من خطوط تماس أخرى، لا تقل خطورة؟ لطالما قلل المركز من أهمية الأطراف، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. فلا سلمهم كان يعنيه، ولا اقتصادهم، فما بالك من حروبهم؟
بعيد التفجيرات الأخيرة وضع أحد المواطنين ملصقاً على نافذة متجره كتب عليه: "يرجى عدم التفجير قرب المحل. لأنو أكتر من نصّ البضاعة بالدّين". لعل هذه الجملة، ولو على سبيل المزاح، تعبر أصدق تعبير عن حالة لبنان في سنوات ما بعد الطائف: ديون متراكمة، على الدولة وعلى المواطن، وعنف ما برح يهدد الحياة اليومية للبنانيين. حرباً أم لا، فإن لبنان يعيش مفاعيل الحرب.